أن وصف النبي بالأبتر، وتعييره بانقطاع نسله، لا يعدو أن يكون أمراً شخصياً، فهل أن هذه المسألة الشخصية هي من الأهمية بحيث أن الله سبحانه وتعالى ينزل سورة يخلد فيها هذا الأمر، ويفرض قراءتها على العالمين؟
وما هي الحكمة التي اقتضت ذلك؟!
ونقول في الجواب: إن السورة وإن كانت قد عالجت ـ بحسب الظاهر ـ أمراً شخصياً وخاصاً، هو الذي اقتضى نزولها. ولكنها على أي حال قد تضمنت بيان قواعد وضوابط، وسنناً إلهية مهمة في حياة البشر هي التي اقتضت إفراد صورة خاصة.
وفي القرآن نظائر كثيرة لهذا الأمر، حيث نجد أن الله سبحانه قد ربط قضايا كثيرة بأحداث واقعية، يستجيب لها هذا الإنسان في أحاسيسه، وفي مشاعره، وفي وعيه..
وليكن من جملة ذلك قوله تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى الله﴾، فإنها وإن كانت أيضاً قضية شخصية، بحسب الظاهر، ولكنها تتحرك في نطاق الوعي الإسلامي العام، وفي دائرة ضوابطه ومنطلقاته، ومُثُلِه، وقِيَمِه.
وكذلك الحال في قوله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾. حيث بينت الآية أن المال ليس هو الذي يقرّر مصير الإنسان، وليس هو الذي يتحكّم بمستقبل الحياة.
فالمقصود إذن هو إعطاء الضابطة الحياتية الحاسمة في أمرٍ هو أهمّ شيء يمسّ الإنسان في مجال الإغراء، وفي مجال إبعاده عن الله، وعن القيم، ألا وهو المال الذي هو أشد تأثيراً في حياة الإنسان من أي شيء آخر، حتى من الغريزة الجنسية، فإن الجنس حالة غريزية، يمكن أن يجد الإنسان الطريقة المشروعة لتنفيسها والتخفيف من حدة ضوابطها، وينتهي الأمر. أما المال فهو يمس مجموعة كبيرة من القيم في حياة الإنسان، ويؤثر فيها، فهو يمس صدق الإنسان، ووفاءه وحبه للدنيا، وكرم نفسه، وسخاءه، وشحه، وكثيراً من القيم الحياتية، التي يريد أن يتعامل بها في حياته مع مختلف الموجودات: من جماد، وحيوان، وإنسان، ومن غيب وشهود، وغير ذلك.
إن هذا المال يلامس هذه القيم، ويؤثر فيها، ويحدث فيها الخلل، ويدمّر فيها الكثير من الخلايا النابضة بالحياة.
فله إذن دور خطير جداً في حياة الإنسان، وفي مستقبله: ﴿مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ﴾.
فالقضية إذن ليست قضية شخصية، تتعلق بشخص أبي لهب، ولا هي في سورة الكوثر مجرد قضية إنسان عاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأنه لم يكن له أولاد، ولا هي هناك مجرد قضية امرأة شكت زوجها لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإنما هي قضية حساسة وخطيرة من خلال ما ينتج عنها من ضوابط ومعايير، وما تشير إليه من سنن إلهية، وما توحي به من ارتباطات روحية، ومشاعرية، وغيرها، مع قضايا الحياة، ومع الله، ومع النبوات، وغير ذلك مما يراد لنا أن نفهمه من خلال هذه الآيات التي تعرضت لها.
وقد ذكرنا سابقاً أن آيات القرآن تربط قضايا الإيمان والمثل، والقيم، بأمور محسوسة، وبقضايا جزئية، يعيشها الإنسان، ويحس بها.
وهذه سياسة إلهية في مجال التعليم، باعتماد أسلوب تجسيد الفكرة التي يراد تعليمها أو الإيحاء بها للإنسان، فهو لا يريد أن يحدثه عن غيب لا يرتبط بالواقع، أو يريد أن يحدثه عن الغيب الذي تجسد في الواقع، وتحول إلى أمرٍ يلمسه، ويحس ويشعر به.
وهذا كما جسد الله سبحانه للناس الغيب بالكعبة، وبالقرآن، وبالمسجد الأقصى، وبالحجر الأسود.
أي أنه سبحانه يريد أن يجعلك أيها الإنسان تلمس الغيب، وتتعامل معه، من موقع الإحساس، والاتصال المباشر به، ولا يقتصر هذا الاتصال على الاتصال الحسي المادي، بل يتعداه إلى الاتصال الوجداني والمشاعري، والقلبي والروحي، لينعكس على الحركة والسلوك ليتجسد تصرفاً ومنطقاً وتعاملاً، ولا يبقى حالة غيبية ذهنية، تعيشها في تصوراتك، ثم قد تمحى هذه الصورة وتنتهي.
إنه يريد للغيب المتجسد في الحجر الأسود أن تلمسه، وأن تقبله، وتتبرك به، وأن يؤثر في جسدك، وفي كيانك، وروحك، ومشاعرك، من خلال ملامسة خدك أو شفتيك له، وأنت تقبله.
إنه يريد أن يتحول الغيب إلى بركات، وإلى حالات شعورية، وإلى أحاسيس.
ولا يريد للغيب أن يبقى أمراً مجهولاً، يخاف منه الإنسان، لأنه لا يعرفه، ولا يتلمسه. بل يريده أمراً حاضراً، وأن يحوله إلى شهود، يتعامل معه بالحس وبالمشاعر القريبة. لا بالمشاعر الناشئة عن التخيُّل، وعن الالتذاذ بالأحلام، على طريقة أحلام اليقظة، حيث يتخيل الإنسان نفسه أن له قصوراً، وجبالاً، وبساتين، وأنه يطير في الهواء، وغير ذلك.
إن الإسلام يريد أن يجسد للإنسان المثل والقيم، والمعاني الإنسانية، وأضدادها، فيجسد له الصدق، كما يجسد له الكذب، ويجسد له الإيمان، كما يجسد له النفاق في حركة هذا وفي كلمة ذاك، وفي موقف هنا، وموقف هناك.. فتقرأ قصة إبراهيم (عليه السلام) في ذبح ولده إسماعيل (عليه السلام)، وتقرأ أيضاً قصة عبد الله بن أبي حينما انخذل بالمنافقين في حرب أحد، وغير ذلك.
ومن كل ما تقدم يتضح: أن قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ يريد أن يجسد لنا جملة من المعاني، والقيم، والمعايير العامة، ويربطها في هذا الحدث الخاص، فإننا إذا ارتبطنا بها من خلال الحدث، فإن ذلك يقربها إلى الواقع، ويخرجها من عالم التخيُّل والتصور الذهني، أو الأحلام التي قد تتلاشى وتتبخر، حينما تضغط علينا الحياة، وتواجهنا فيها المشكلات.
ولأجل أن القيمة تحولت إلى حقيقة واقعية، وتجسدت، فإن هذه الضغوط كلما زادت فسنجد أنفسنا أكثر إحساساً بالحاجة إلى اللجوء إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقبر الإمام الحسين (عليه السلام)، وإلى أماكن القرب من الله، وسنشعر أننا بحاجة إلى أن نقبِّل قبر النبي (صلى الله عليه وآله) وقبر الإمام (عليه السلام).
فاتضح أن الحديث عن المسألة ليس عن جانبها الشخصي حين عيَّر العاص بن وائل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بل عن الجانب القيمي والمعياري المرتبط بالمثل العليا، والمنطلقات الإنسانية والإيمانية أيضاً.